الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
(1) شرع المؤلف بسوق أدلة المعية؛ أي: أدلة معية الله تعالى لخلقه، وناسب أن يذكرها بعد العلو ؛ لأنه قد يبدون للإنسان أن هناك تناقضاً بين كونه فوق كل شيء وكونه مع العباد، فكان من المناسب جداً أن يذكر الآيات التي تثبت معية الله للخلق بعد ذكر آيات العلو.
وفي معية الله تعالى لخلقه مباحث: المبحث الأول في أقسامها : معية الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: عامة، وخاصة. والخاصة تنقسم إلى قسمين: مقيدة بشخص ، ومقيدة بوصف. أما العامة ؛ فهي التي تشمل كل أحد من مؤمن وكافر وبر وفاجر . ودليلها قوله تعالى: أما الخاصة المقيدة بوصف ؛ فمثل قوله تعالى: وأما الخاصة المقيدة بشخص معين؛ فمثل قوله تعالى عن نبيه : وهذه أخص من المقيدة بوصف. فالمعية درجات: عامة مطلقة، وخاصة مقيدة بوصف، وخاصة مقيدة بشخص. فأخص أنواع المعية ما قيد بشخص ، ثم ما قيد بوصف، ثم ما كان عاماً. فالمعية العامة تستلزم الإحاطة بالخلق علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وغير ذلك من معاني ربوبيته، والمعية الخاصة بنوعيها تستلزم مع ذلك النصر والتأييد.
المبحث الثاني: هل المعية حقيقية أو هي كتابة عن علم الله عز وجل وسمعه وبصره وقدرته وسلطانه وغير ذلك من معاني ربوبيته؟ أكثر عبارات السلف رحمهم الله يقولون : إنها كتابة عن العلم وعن السمع والبصر والقدرة وما أشبه ذلك ، فيجعلون معنى قوله: واختار شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب وغيره أنها على حقيقتها ، وأن كونه معنا حق على حقيقته ، لكن ليست معيته كمعية الإنسان للإنسان التي يمكن أن يكون الإنسان مع الإنسان في مكانه ؛ لأن معية الله عز وجل ثابتة له وهو في علوه ؛ فهو معنا وهو عال على عرشه فوق كل شيء ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون معنا في الأمكنة التي نحن فيها. وعلى هذا، فإنه يحتاج إلى الجمع بينها وبين العلو. والمؤلف عقد لها فصلاً خاصاً سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وأنه لا منافاة بين العلو والمعية، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فهو علي في دنوه، قريب في علوه. وضرب شيخ الإسلام رحمه الله لذلك مثلاً بالقمر، قال: إنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا، وهو موضوع في السماء، وهو من أصغر المخلوقات، فكيف لا يكون الخالق عز وجل مع الخلق، الذي الخلق بالنسبة إليه ليسوا بشيء، وهو فوق سماواته؟! وما قاله رحمه الله فيه دفع حجة بعض أهل التعطيل حيث احتجوا على أهل الحسنة، فقالوا: أنتم تمنعون التأويل، وأنتم تؤولون في المعبة، تقولون: المعية بمعنى العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان وما اشبه ذلك. فنقول: إن المعية حق على حقيقتها، لكنها ليست في المفهوم الذي فهمه الجهمية ونحوهم، بأنه مع الناس في كل مكان وتفسير بعض السلف لها بالعلم ونحوه، بأنه مع الناس في كل مكان وتفسير بعض السلف لها بالعلم ونحوه تفسير باللازم.
*المبحث الثالث: هل المعية من الصفات الذاتية أو منا لصفات الفعلية؟ فيه تفصيل: - أما المعية العامة، فهي ذاتية ؛ لأن الله لم يزل ولا يزال محيطاً بالخلق علماً وقدرة وسلطاناً وغير ذلك من معاني ربوبيته. - وأما المعية الخاصة، فهي صفة فعلية، لأنها تابعة لمشيئة الله، وكل صفة مقرونة بسبب هي من الصفات الفعلية، فقد سبق لنا أن الرضى من الصفات الفعلية، لأنه مقرون بسبب، إذا وجد السبب الذي به يرضى الله، وجد الرضى، وكذلك المعية الخاصة إذا وجدت التقوى أو غيرها من أسبابها في شخص، كان الله معه.
*المبحث الرابع في المعية: هل هي حقيقة أو لا؟ ذكرنا ذلك، وأن من السلف من فسرها باللازم، وهو الذي لا يكاد يرى الإنسان سواه. ومنهم من قال: هي على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله، خاصة به. وهذا صريح كلام المؤلف هنا في هذا الكتاب وغيره، لكن تصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن الله معنا في الأرض ونحو ذلك، فإن هذا باطل مستحيل!
*المبحث الخامس في المعية: هل بينها وبين العلو تناقض؟ الجواب: لا تناقض بينهما، لوجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن الله جمع بينهما فيما وصف به نفسه، ولو كانا يتناقضان ما صح أن يصف الله بهما نفسه. الوجه الثاني: أن نقول: ليس بين العلو والمعية تعارض، أصلاً، إذ من الممكن أن يكون الشيء عالياً وهو معك، ومنه ما يقوله العرب: القمر معنا ونحن نسير، والشمس معنا ونحن نسير، والقطب معنا ونحن نسير، مع أن القمر والشمس والقطب كلها في السماء، فإذا أمكن اجتماع العلو والمعية في المخلوق، فاجتماعهما في الخالق من باب أولى. أرأيت لو أن إنساناً على جبل عالٍ، وقال للجنود: اذهبوا إلى مكان بعيد في المعركة، وأنا معكم، وهو واضع المنظار على عينيه، ينظر إليهم من بعيد، فصار معهم، لأنه الآن يبصر كأنهم بين يديه، وهو بعيد عنهم، فالأمر ممكن في حق المخلوق، فكيف لا يمكن في حق الخالق؟! الوجه الثالث: أنه لو تعذر اجتماعهما في حق المخلوق، لم يكن متعذراً في حق الخالق، لأن الله أعظم وأجل، ولا يمكن أن تقاس صفات الخالق بصفات المخلوقين، لظهور التباين بين الخالق والمخلوق. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في سفره: وثبت في الحديث الصحيح (2) إذاً، يمكن أن يكون الله معنا حقاً وهو على عرشه في السماء حقاً، ولا يفهم أحداً أنهما يتعارضان، إلا من أراد أن يمثل الله بخلقه، ويجعل معية الخالق كمعية المخلوق. ونحن بينا إمكان الجمع بين نصوص العلو ونصوص المعية، فإن تبين ذلك، وإلا، فالواجب أن يقول العبد: آمنت بالله ورسوله، وصدقت بما قال الله عن نفسه ورسوله، ولا يقول: كيف يمكن؟! منكراً ذلك! إذا قال: كيف يمكن؟! قلنا: سؤالك هذا بدعة، لم يسأل عنه الصحابة، وهم خير منك، ومسؤولهم أعلم من مسؤولك وأصدق وأفصح وأنصح، عليك أن تصدق، لا تقل: كيف؟ ولا لم؟ ولكن سلم تسليماً. تنبيه: تأمل في الآية، تجد كل الضمائر تعود على الله سبحانه وتعالى: أما أهل الحلول، فقالوا: إن الله معنا بذاته في أمكنتنا، إن كنت في المسجد، فالله معك في المسجد والذين في السوق الله معهم فىالسوق!! والذين في الحمامات الله معهم في الحمامات!! ما نزهوه عن الأقذار والأنتان وأماكن اللهو والرفث!!
المبحث السادس: في شبهة القائلين بأن الله معنا في أكنتنا والرد عليهم: شبهتهم : يقولون : هذا ظاهر اللفظ : والرد عليهم من وجوه: أولاً: أن ظاهرها ليس كما ذكرتم؛ إذ لو كان الظاهر كما ذكرتم ؛ لكان في الآية تناقض: أن يكون مستوياً على العرش، وهو مع كل إنسان في أي مكان ! والتناقض في كلام الله تعالى مستحيل . ثانياً : قولكم : "إن المعية لا تعقل إلا مع المخالطة أو المصاحبة في المكان! هذا ممنوع ؛ فالمعية في اللغة العربية أسم لمطلق المصاحبة، وهي أوسع مدلولاً مما زعمتم ؛ فقد تقتضصي الإختلاط ، وقد تقتضي المصاحبة في المكان، وقد تقتضي مطلق المصاحبة وإن اختلف المكان ؛ هذه ثلاثة أشياء: 1-مثال المعية التي تقتضي المخالطة: أن يقال: اسقوني لبناً مع ماء ؛ أي : مخلوطاً بماء. 2-ومثال المعية التي تقتضي المصاحبة في المكان: قولك: وجدت فلاناً مع فلان يمشيان جميعاً وينزلان جميعاً. 3-ومثال المعية التي تقتضي الإختلاط ولا المشاركة في المكان: أن يقال : فلان مع جنوده . وإن كان في غرفة القيادة ، لكن يوجههم . فهذا ليس فيه اختلاط ولا مشاركة في مكان. ويقال: زوجة فلان معه. وإن كانت هي في المشرق وهو في المغرب. فالمعية إذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكما هو ظاهر من شواهد اللغة: مدلولها مطلق المصاحبة، ثم هي بحسب ما تضاف إليه. فإذا قيل : ثالثاً: نقول: وصفكم الله بهذا ! من أبطل الباطل وأشد التنقص لله عز وجل ، والله عز وجل ذكرها هنا عن نفسه متمدحاً ؛ أنه مع علوه على عرشه ؛ فهو مع الخلق ، وإن كانوا أسفل منه ، فإذا جعلتم الله في الأرض ؛ فهذا نقص. إذا جعلتم الله نفسه معكم في كل مكان ، وأنتم تدخلون الكنيف ؛ هذا أعظم النقص ، ولا تستطيع أن تقوله ولا لملك من ملوك الدنيا: إنك أنت في الكنيف ! لكن كيف تقوله لله عز وجل ؟! رابعاً : يلزم على قولكم هذا أحد أمرين لا ثالث لهما ، وكلاهما ممتنع : إما أن يكون الله متجزئاً ، كل جزء منه في مكان. وإما أن يكون متعدداً ؛ يعني : كل إله في جهة ضرورة تعدد الأمكنة. خامساً: أن نقول : قولكم هذا أيضاً يستلزم أن يكون الله حالاً في الخلق ؛ فكل مكان في الخلق ؛ فالله تعالى فيه، وصار هذا سلماً لقول أهل وحدة الوجود. فأنت ترى أن هذا القول باطل ، ومقتضى هذا القول الكفر. ولهذا نرى أن من قال: إن الله معنا في الأرض ؛ فهو كافر؛ يستتاب ، ويبين له الحق، فإن رجع، وإلا ؛ وجب قتله. وهذه آيات المعية: الآية الأولى: قوله تعالى: (1)الآية الثانية: قوله: وقوله : وقوله: قوله : {ولا خمسة هو سادسهم} ذكر العدد الفردي ثلاثة وخمسة، وسكت عن العدد الزوجي، لكنه داخل في قوله : ما من أثنين فأكثر يتناجيان بأي مكان من الأرض ؛ إلا والله عز وجل معهم. وهذه المعية عامة؛ لأنها تشمل كل أحد: المؤمن ، والكافر، والبر، والفاجر ، ومقتضاها الإحاطة بهم علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك. وقوله:
وقوله :
وقوله عز وجل : (1)الآية الثالثة: الخطاب لأبي بكر من النبي ، صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: أولاً: نصره حين الإخراج و ثانياً: وعند المكث في الغار ثالثاً: عند الشدة حينما وقف المشركون على فم الغار : فهذه ثلاثة مواقع بين الله تعالى فيها نصره لنبيه ، صلى الله عليه وسلم. وهذا الثالث حين وقف المشركون عليهم ؛ يقول أبو بكر : وقوله : والحزن: تألم النفس وشدة همها. أما أن تأتي حمامة وعنكبوت تعشش ؛ فهذا بعيد ، وخلاف قوله: "لو نظر أحدهم إلى قدمه، لأبصرنا". المهم أن بعض المؤرخين - عفا الله عنهم - يأتون باشياء غريبة شاذة منكرة لا يقبلها العقل ولا يصح بها النقل. (1) الآية الرابعة: قوله: هذا الخطاب موجه لموسى وهارون ، لما أمرهما الله عز وجل أن يذهبا إلى فرعون ؛ قال: فقوله : (1) الآية الخامسة: قوله: هذه جاءت بعد قوله : عقوبة الجاني بمثل ما عوقب به من باب التقوى ، وأكثر ظلم وعدوان، والعفو إحسان ، ولهذا قال: والمعية هنا خاصة مقيدة بصفة: كل من كان من المتقين المحسنين؛ فالله معه. وهذا يثمر لنا بالنسبة للحالة المسلكية : الحرص على الإحسان والتقوى ؛ فإن كل إنسان يحب أن يكون الله معه. (2)الآية السادسة: قوله: سبق لنا أن الصبر حبس النفس على طاعة الله ، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط على أقدار الله ؛ سواء باللسان أو بالقلب أو بالجوارح. وأفضل أنواع الصبر: الصبر على طاعة الله، ثم عن معصية الله لأن فيهما اختياراً : إن شاء الإنسان فعل المأمور، وإن شاء لم يفعل ، وإن شاء ترك المحرم وإن شاء ما تركه ، ثم على أقدار الله ؛ لن أقدار الله واقعة شئت أم أبيت؛ فإما أن تصبر صبر الكرام وإما أن تسلو سلو البهائم. والصبر درجة عالية لا تنال إلا بشيء يصبر عليه ، أما من فرشت له الأرض وروداً ، وصار الناس ينظرون إلى مايريد ؛ فإنه لا بد أن يناله شيء من التعب النفس أو البدني الداخلي أو الخارجي. ولهذا جمع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بين الشكر والصبر. فالشكر ؛ كان يقوم حتى تتورم قدماه ، فيقول : والصبر : صبر على ما أوذي ، فقد أوذي من قومه ومن غيرهم من اليهود والمنافقين، ومع ذلك؛ فهو صابر. (1)الآية السابعة : قوله: {كم} : خبرية ، تفيد التكثير ؛ يعني: فئة قليلة غلبت فئة كثيرة عدة مرات، أو فئات قليلة متعددة غلبت فئات كثيرة متعددة، لكن لا بحولهم ولا بقوتهم، بل بإذن الله ، أي: بإرادته وقدرته. ومن ذلك: أصحاب طالوت غلبوا عدوهم وكانوا كثيرين. أصحاب بدر خرجوا لغير قتال، بل لأخذ عير أبي سفيان ، وأبو سفيان لما علم بهم؛ أرسل صارخاً إلى أهل مكة يقول: أنقذوا عيركم، محمد وأصحابه خرجوا إلينا يريدون أخذ العير. فيها أرزاق كثيرة لقريش، فخرجت قريش بأشرافها وأعيانها وخيلائها وبطرها، يظهرون القوة والفخر والعزة ، حتى قال أبو جهل: والله ؛ لا ترجع حتى نقدم بدراً فنقيم فيها ثلاثاً ؛ ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب ؛ فلا يزالون يهابوننا أبداً. فالحمد لله ، غنوا عل قتله هو ومن معه! كان هؤلاء القوم ما بين تسعمائة وألف، كل يوم ينحرون من الإبل تسعاً إلى عشر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو أصحابه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً ، معهم سبعون بعيراً وفرسان فقط يتعاقبونها ، ومع ذلك قتلوا الصناديد العظماء لقريش حتى جيفوا وانتفخوا من الشمس وسحبوا إلى قليب من قلب بدر خبيثة. فـ انتهت آيات المعية، وسيأتي للمؤلف رحمه الله فصل كامل في تقريزها. فما هي الثمرات التي نستفيدها بأن الله معنا؟ أولاً: الإيمان بإحاطة الله عز وجل بكل شيء ، وأنه مع علوه فهو مع خلقه، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم أبداً. ثانياً: أننا إذا علمنا ذلك وآمنا به؛ فإن ذلك يوجب لنا كمال مراقبته بالقيام بطاعته وترك معصيته ؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا ، ولا يجدنا حيث نهانا ، وهذه ثمرة عظيمة لمن آمن بهذه المعية.
|